فصل: (فرع: الطيب للمحرم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: حكم المار من الميقات من غير المكلفين]

وإن مر كافر بالميقات، وهو مريد للنسك، فجاوزه، ثم أسلم وأحرم دونه، ولم يعد إليه.. فعليه دم.
وقال أبو حنيفة والمزني: (لا دم عليه).
دليلنا: أنه جاوز الميقات مريدا للنسك، وأحرم دونه، ولم يعد إليه، فوجب عليه الدم، كالمسلم.
وإن أحرم الصبي أو العبد من الميقات وجاوزه، ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف بعرفة.. فقد ذكرنا: أنه يجزئهما عن حجة الإسلام.
فإن لم يرجعا إلى الميقات قبل التلبس بنسك.. فهل يجب عليهما الدم؟ طريقان:
أحدهما قال أبو الطيب بن سلمة، وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب عليهما الدم قولا واحدا؛ لأنهما أتيا بحجة الإسلام من الميقات، فلم يجب عليهما الدم، كما لو كانا كاملين في حال الإحرام.
والثاني: من أصحابنا من قال: فيه قولان ـ ولم يذكر في (المهذب) غير هذا ـ:
أحدهما: لا يجب عليهما الدم، وقال القاضي أبو حامد وهو الصحيح؛ لما ذكرناه.
والثاني: يجب عليهما الدم؛ لأن الإحرام من الميقات كان نافلة، وإنما وقع الإحرام عن فرضهما من حين كملا، فكأن الإحرام من الميقات لم يكن.

.[مسألة:ميقات المكي]

وأما المكي: فميقاته للحج مكة؛ لما روي في حديث ابن عباس، ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة، فإن خرج من مكة إلى الحل وأحرم بالحج منه.. كان كغير المكي إذا جاوز الميقات وأحرم دونه، وقد بيناه.
وإن أحرم من موضع من الحرم خارج مكة.. فهل هو كمكة؟ فيه قولان، وقيل وجهان، وقد مضى ذكرهما.
وأما إذا أراد الإحرام بالعمرة.. فميقاته أدنى الحل.
والأفضل: أن يحرم من الجعرانة؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر منها في السنة التي قاتل أهل حنين).
فإن أخطأه ذلك.. فمن التنعيم؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعمر عائشة منها).
فإن أخطأه ذلك.. فمن الحديبية؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلى بها، وأراد المدخل في عمرته منها). هذا الذي ذكره المزني في " المختصر " [2/51].
وقال الشيخ أبو حامد: والذي يقتضيه المذهب: أن الاعتمار بعد الجعرانة، من الحديبية أفضل من التنعيم؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بها، وصلى بها، وأراد أن يدخل منها بعمرة)، ولأنها أبعد من الحرم من التنعيم، وكلما بعد الإنسان.. كان أفضل.
فإن أحرم المكي بالعمرة من مكة.. نظرت:
فإن خرج إلى الحل قبل الطواف، ثم رجع وطاف وسعى.. صحت عمرته، ولا شيء عليه؛ لأنه قد زاد خيرًا.
وإن طاف وسعى قبل أن يخرج إلى الحل.. فقد قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا البغداديين: يصح إحرامه بالعمرة بلا خلاف، ولكن هل يعتد بطوافه وسعيه؟
فيه قولان:
أحدهما: يعتد بهما، ولكن عليه دم لترك الميقات، كغير المكي إذا جاوز الميقات، وأحرم دونه، ولم يعد إليه.
فعلى هذا: الحل ليس بشرط في العمرة.
والثاني: لا يعتد بالطواف والسعي؛ لأن العمرة نسك من شرطها الطواف، فكان من شرطها الجمع بين الحل والحرم، كالحج.
فعلى هذا: يكون باقيا على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحل، ثم يرجع ويطوف ويسعى.
وأما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 181] فقال هل يصح إحرامه بالعمرة؟ فيه قولان، ووجهه: ما قاله.
والله أعلم

.[باب الإحرام وما يحرم فيه]

ينبغي لمن أراد أن يحرم: أن يتجرد عن ثيابه، فيغتسل؛ لما روى زيد بن ثابت «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد عن ثيابه لإحرامه، واغتسل».
قال الشافعي: (لم أترك الغسل للإحرام قط، ولقد اغتسلت وأنا مريض أخاف من الماء، وما صحبت أحدا أقتدي به ترك الغسل للإحرام).
ويستحب الغسل للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء؛ لما روى جابر قال: «ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذي الحليفة، فأمرها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تغتسل وتحرم»، وروى ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النفساء
والحائض إذا أتتا على المواقيت.. تغتسلان وتحرمان، وتقضيان المناسك كلها، غير الطواف بالبيت».
ولأن الحيض والنفاس لا ينافيان هذه العبادة، فلا يمنعان الاغتسال لها.
قال الشافعي: (ومتى حاضت المرأة، أو نفست في الميقات أو قبله، فإن أمكنها أن تقف حتى تطهر فتغتسل وتحرم.. أحببت لها أن تقف لتدخل في الإحرام على أكمل أحوالها، فإن لم يمكنها ذلك.. اغتسلت وأحرمت)؛ لـ: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لعائشة أن تحرم بالحج وهي حائض» و: «أذن لأسماء بنت عميس أن تحرم وهي نفساء».
إذا ثبت هذا: فإن الغسل للإحرام ليس بواجب.
وقال الحسن البصري: إذا نسي الغسل عند إحرامه.. اغتسل إذا ذكره.
فإن أراد: أن ذلك مستحب.. فهو وفاق، وإن أراد: أنه واجب.. فالدليل عليه: أنه لو كان واجبا.. لما أمر به من لا يصح منه الغسل، وهو الحائض والنفساء كغسل الجنابة. ولأنه غسل لأمر مستقبل، فلم يكن واجبا، كغسل الجمعة والعيدين.
فإن لم يجد الماء.. تيمم؛ لأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فناب عن المسنون.

.[فرع: الأماكن التي يستحب لها الغسل]

قال الشافعي في الجديد: (ويستحب الاغتسال للحج في سبعة مواطن:
للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة، وللوقوف بالمزدلفة، ولرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق، ولا يستحب ذلك لرمي جمرة العقبة؛ لأن الناس لا يجتمعون لها)
وزاد في القديم ثلاث اغتسالات: (لطواف الزيارة، ولطواف الوداع، وللحلق) ولم يحك الشيخ أبو حامد الغسل للحلق، وإنما حكاه القاضي أبو الطيب.

.[مسألة:ما يلبسه المحرم]

فإذا فرغ المريد للإحرام من الاغتسال.. فإنه يلبس إزارا ورداء، ويكشف رأسه، ويخلع خفيه، ويلبس نعلين، لما روى ابن عمر أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين».
والمستحب: أن يكون ثوباه أبيضين؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير ثيابك البياض فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم» والمحرم على أكمل أحواله، فاستحب له أفضل الثياب.
والجديد أحب إلينا من المغسول، فإن لم يجد جديدا.. لبس مغسولا.

.[فرع: الطيب للمحرم]

فإذا فرغ من الاغتسال، ولبس الثوبين.. فالمستحب له: أن يتطيب قبل إحرامه، ولا فرق بين أن يتطيب بطيب تبقى عينه أو أثره، كالمسك والغالية والعود، وبين أن يتطيب بطيب لا تبقى عينه أو أثره، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأبي يوسف.
وحكى صاحب "الفروع" وجها آخر لبعض أصحابنا: أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه. وليس بشيء.
وقال مالك وعطاء: (يكره له أن يتطيب بطيب تبقى رائحته بعد الإحرام).
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب.
واحتجوا: بما «روى يعلى بن أمية قال: (كنا عند رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه رجل أعرابي، وعليه مقطعة ـ يعني: جبة وهو متضمخ بالخلوق. وفي بعض الروايات: عليه ردع من زعفران ـ فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة، وعلي هذه وأنا متضمخ بالخلوق، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع عني هذه المقطعة، وأغسل عني هذا الخلوق، فقال له ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كنت صانعا في حجك.. فاصنعه في عمرتك».
ودليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (طيبت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت»، وروي عنها: أنها قالت: «رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ثلاث من إحرامه».
ولأن الطيب معنى يراد للاستدامة والبقاء، فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح.
وأما حديث يعلى بن أمية: فإنما ذلك لأن الخلوق فيه الزعفران، والرجل ممنوع من لبس المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى الرجل عن لبس المزعفر».
قال أبو علي الطبري في "الإفصاح"، والشيخ أبو حامد: ويستوي في النهي عن المزعفر الرجل الحلال والمحرم؛ للخبر المذكور.
وأيضا: فإن خبرنا متأخر عن خبر يعلى بن أمية، فكان ناسخا له.

.[فرع: انتشار الطيب بالعرق وتطييب الثوب]

فإن تطيب قبل الإحرام، ثم عرق بعد الإحرام، وسال الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الفدية: لأنه حصل الطيب على موضع من بدنه بعد الإحرام بعد أن لم يكن عليه بسبب فعله، فوجبت عليه الفدية به، كما لو طيبه ابتداء.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا فدية عليه: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كنا إذا أردنا الإحرام.. نضمد جباهنا بالسك المطيب، فإذا عرقت إحدانا، سال ذلك على وجهها.. فيراه رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينكر عليها». ولأنه ليس بتطيب من جهته بعد الإحرام، فهو كما لو ثبت مكانه.
فإن نقل الطيب من موضع في بدنه إلى موضع غيره، أو تعمد مسه، أو نحاه من موضعه ورده إليه.. وجبت عليه الفدية، كما لو تطيب ابتداء.
وإن طيب ثوبا ولبسه، ثم أحرم.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في "الإبانة" ق\191]:
أحدها: يجوز، كما لو طيب بدنه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الطيب يبقى على الثوب، ولا يستهلك بخلاف البدن.
والثالث ـ وهي طريقة أصحابنا البغداديين ـ: إن استدام لبسه.. فلا شيء عليه، كما لو طيب بدنه واستدام الطيب عليه.
وإن نزع الثوب في الإحرام، ثم رده.. فعليه الفدية، كما لو ابتدأ الطيب في بدنه أوثيابه.

.[مسألة:من يستحب له الحناء والطيب]

وأما المرأة: فإذا أرادت الإحرام.. فيستحب لها أن تختضب بالحناء قبل الإحرام؛ لما روي «عن عبد الله بن دينار: أنه قال: (من السنة أن تختضب المرأة إذا أرادت الإحرام» وإذا قال الصحابي أو التابعي: (من السنة كذا).. اقتضى سنة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما الخنثى المشكل: فقال القاضي أبو الفتوح في كتاب (الخناثى): لا يسن له الخضاب للإحرام، كالرجل.
ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء في كل وقت إذا كانت ذات زوج؛ لأن هذا زينة وجمال، وقد استحب لها التجمل للزوج. وروي: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدت إليه امرأة يدها لتبايعه، فقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يد رجل أم يد امرأة؟» فقالت: بل يد امرأة، فقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدري، فأين الخضاب؟!».
وإن كانت غير ذات زوج، ولم ترد الإحرام.. لم يستحب لها الخضاب، بل يكره لها ذلك؛ لأنه لا زوج لها تتزين له، وربما غرت الناس، فافتتنوا بها.
ويستحب للمرأة إذا أرادت الإحرام أن تتطيب، كما يستحب ذلك للرجل؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة، فلما كان عند الإحرام.. ضمدنا جباهنا بالسك، فكنا إذا عرقنا، سال على وجوهنا.. فيراه رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا ينكره».
إذا ثبت هذا: فيستحب ذلك للشابة والعجوز.
والفرق بينه وبين الجمعة، حيث قلنا: لا يستحب ذلك في حقها إذا أرادت حضور الجمعة؛ لأن موضع حضور الجمعة أضيق؛ لأنها تقعد بالقرب من الرجال، ولهذا لم يسن للشابة حضور الجمعة، وليس كذلك الإحرام؛ لأن موضعه واسع لا يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، ولهذا لم يفرق في حضوره بين العجوز والشابة.

.[مسألة:ركعتا الإحرام وأفضلية وقته]

إذا فرغ المريد للنسك مما ذكرناه.. فالمستحب له: أن يصلي ركعتين، ثم يحرم؛ لما روى ابن عباس، وجابر بن عبد الله: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم».
قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يحرم في وقت لا يجوز فيه الصلاة، وهو بعد صلاة الصبح، وقبل طلوع الشمس، أو عند غروبها، وما أشبه ذلك من الأوقات المنهي عنها.. نظرت: فإن أمكنه أن يقف حتى تطلع الشمس، وتحل الصلاة، ثم يصلي ويحرم.. فعل ذلك؛ لأن الركعتين زيادة قربة وطاعة. وإن لم يمكنه ذلك.. فإنه يحرم بغير صلاة؛ لأن ابتداء النافلة في ذلك الوقت لا يجوز. قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 78] ولأن سبب الصلاة متأخر عنها.
فإذا فرغ من الركعتين.. فهل الأفضل أن يحرم عقيبهما، أو حتى تنبعث به راحلته، أو يبتدئ بالسير إن كان ماشيا؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين). وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: قال في الجديد: (الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا، أو إذا ابتدأ بالسير إن كان ماشيا).
وقال مالك: (يحرم إذا أشرف على البيداء).
فإذا قلنا بالقديم.. فوجهه: ما روي «عن سعيد بن جبير: أنه قال: قلت لابن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إحرامه حين أوجب! فقال بعضهم: أهل حين فرغ من الصلاة، وقال بعضهم: أهل حين انبعثت به راحلته، وقال بعضهم: أهل حين أشرف على البيداء. فقال ابن عباس: (أنا أعلم الناس بذلك: إن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى مسجده بذي الحليفة.. صلى ركعتين، ثم أوجب في مجلسه، فحفظه قوم، وقالوا: أهل حين فرغ من الصلاة، فلما ركب وانبعثت به راحلته.. أهل، فأدركه قوم، وقالوا: أهل حين انبعثت به راحلته، فلما أشرف على البيداء.. أهل، فأدركه قوم، فقالوا: أهل حين أشرف على البيداء».
وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: ما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يهل حتى تنبعث به راحلته»، وهذا نفي وإثبات. وروى جابر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«إذا رحتم إلى منى متوجهين.. فأهلوا بالحج».

.[فرع: انعقاد الإحرام بغير تلبية ولا بد من النية]

وينوي الإحرام، ويستحب له أن يلبي، فإن نوى الإحرام، ولم يلب.... انعقد إحرامه.
وقال أبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية. قال في "الإفصاح": وبه قال ابن خيران.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية، أو بالنية وسوق الهدي).
دليلنا: أنها عبادة لا يجب النطق في آخرها، فلم يجب في أولها، كالصوم والطهارة، وعكسه الصلاة.
فإن لبى ولم ينو.. لم ينعقد إحرامه.
وقال داود: (ينعقد إحرامه بالتلبية دون النية)، وحكي أن أبا العباس ابن سريج قال لداود: صف لنا تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرها، فقال له: صرت محرما، فقال: لقد تزببت حصرما.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى»، ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية، كالصلاة والصوم.

.[فرع: تعيين النسك بالنية]

وله أن يعين ما يحرم به من إفراد أو تمتع أو قران.
فإن لبى بحج ونوى عمرة، أو لبى بعمرة ونوى حجا.. انعقد إحرامه بما نواه، لا بما لبى به؛ لأن النسك ينعقد بالنية دون التلبية.
وإن أحرم إحراما مطلقا، ولم ينو حجا ولا عمرة ولا قرانا.. صح إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أي وجوه الإحرام شاء.
والدليل عليه: ما روى طاووس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسم حجا ولا عمرة حتى وقف بين الصفا والمروة، ينتظر القضاء.. فأمر أن يهل بالحج»، وروي: «أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم من اليمن، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بم أهللت؟» قال: قلت: أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فأقم على إحرامك»، وفي رواية أخرى: أنه قال: «أما إني سقت الهدي.. فلا أحل حتى أنحر»، وكذلك روي: أن أبا موسى الأشعري فعل كذلك.
وهي الأفضل أن يطلق إحرامه، أو يعين ما أحرم به؟ فيه قولان:
أحدهما: أن الإطلاق أفضل؛ لما ذكرناه من حديث طاووس، ولأنه أقل غررا؛ لأنه يصرفه إلى الأسهل.
والثاني: أن التعيين أفضل؛ لأن جابرًا روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا بالحج» وهذا أولى؛ لأن حديث طاووس مرسل، ولأنه يكون عالما بما يدخل به من العبادة.
وهل الأفضل أن يذكر ما أحرم به في تلبيته، أو يقتصر على النية فقط؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص للشافعي -: أن الأفضل أن لا ينطق بما أحرم به.
والثاني: من أصحابنا من قال: الأفضل أن ينطق بما أحرم به - وبه قال أحمد - لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو بالعقيق -: «أتاني الليلة آت من عند ربي عز وجل، فقال لي: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة في عمرة» ولأن ذلك أبعد عن النسيان.
ووجه الأول: حديث طاووس، وما حكي: أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لبيك بحجة، فدفع في صدره، وقال: (هو يعلم ما في نفسك)، ولأن التلبية ذكر لله تعالى، وتسمية النسك ليست بذكر لله عز وجل، فلم يستحب أن يشوب ذكر الله عز وجل بما ليس بذكر له.

.[فرع: إطلاق النية في الإحرام]

فإن أحرم إحراما مطلقا.. فله أن يصرفه إلى الحج، أو العمرة، أو إليهما.
فإن طاف، أو وقف بعرفة قبل أن يصرف إحرامه إلى شيء... لم ينصرف إحرامه بنفس الطواف أو الوقوف، بل لو صرف إحرامه بعد الطواف إلى الحج.. وقع الطواف عن طواف القدوم.
وقال أبو حنيفة: (إذا طاف.. انصرف إحرامه إلى العمرة، وإن وقف بعرفة.. انصرف إلى الحج).
دليلنا: أن نية التعيين شرط، ولم يوجد منه ذلك، فلم يتعين عليه بفعل النسك، كما لو طاف أو وقف قبل الإحرام.

.[فرع: تعليق الإحرام بإحرام الغير]

وإن أحرم كإحرام زيد.. صح؛ لما ذكرناه من حديث علي: أنه قال: «أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -)، ثم ينظر فيه: فإن كان زيد قد أحرم بنسك معين.. انصرف إحرام هذا الذي علق إحرامه عليه إلى النسك الذي أحرم به زيد. وإن أحرم زيد إحراما موقوفا.. كان إحرام هذا الرجل موقوفا أيضا، ولكل واحد منهما أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين على هذا أن يصرف إحرامه إلى ما صرف زيد إحرامه إليه.
وإن أحرم زيد إحراما موقوفا، ثم صرف إحرامه إلى نسك معين، ثم علق رجل إحرامه بإحرام زيد بعد ذلك، فإن قال: أحرمت بإحرام كابتداء إحرام زيد.. انعقد إحرامه موقوفا، وله أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين عليه بما صرف زيد إليه إحرامه. وإن قال: كإحرام زيد الآن.. انعقد إحرامه بما صرف زيد إحرامه إليه.
وإن بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا؛ لأنه قد عقد الإحرام، وإنما علق التعيين على إحرام زيد، فإذا بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا.
وإن لم يعلم ما أحرم به زيد، بأن مات أو جن أو عاد وتعذر العلم بإحرامه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لزمه أن يقرن؛ لأنه اليقين، والفرق بينه وبين من أحرم بنسك معين، ثم نسيه، حيث جوزنا له التحري في أحد القولين؛ لأنه يمكنه أن يتحرى في فعل نفسه، ولا يمكنه ذلك في فعل غيره.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\183] هي على قولين، كمن شك في تعيين ما أحرم به، على ما يأتي ذكرهما.

.[مسألة:الإحرام بنسكين متفقين]

إذا أحرم بحجتين، أو عمرتين، أو أحرم بحجة ثم أدخل عليها حجا، أو أحرم بعمرة ثم أدخل عليها عمرة.. لم ينعقد إحرامه إلا بواحد من النسكين.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد إحرامه بهما، ولا يمكنه المضي فيهما، فترتفض إحداهما)، واختلفوا متى ترتفض؟.
فقال أبو يوسف: تنتقض في الحال.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (ترتفض إذا أخذ في السير، فلو أحصر مكانه.. تحلل منهما).
دليلنا: أنه لا يمكنه المضي فيهما، فلم يصح الدخول فيهما، قياسا على صوم النذر وصوم رمضان.

.[فرع: الإحرام عن رجلين]

فإن استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما جميعا.. انعقد الإحرام للأجير؛ لأن الإحرام الواحد لا ينعقد عن اثنين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فانعقد الإحرام لنفسه دونهما.
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه.. قال ابن الصباغ: انعقد إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أيهما شاء قبل أن يتلبس بشيء من أفعال النسك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: يقع عن نفسه.
دليلنا: أن ما ملك تعيينه في الابتداء.. ملك الإحرام به مطلقا، ثم يعينه، كالإحرام عن نفسه.
وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن المستأجر، وعن نفسه بحج.. انعقد الإحرام بالحج عن نفسه؛ لأن الإحرام انعقد، ولم يصح عن غيره، فوقع عن نفسه، كالصرورة.
وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم بالعمرة عن نفسه وبالحج عن المستأجر، وقرن بينهما.. فقد قال الشافعي في " المنسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن الأجير؛ لأن الإحرام واحد، فلا يجوز أن يقع عن اثنين، ولا يجوز أن يقع عن غيره مع نيته له عن نفسه). قال الشيخ أبو حامد في "التعليق": وقد أومأ الشافعي في القديم إلى: أنهما يقعان على ما نوى، العمرة عن نفسه، والحج عن المستأجر.
ومن أصحابنا من قال: يقعان معا عي المستأجر؛ لأن العمرة تتبع الحج، والحج لا يتبعها.
والأول أصح.